الثلاثاء، 28 يونيو 2011

الإسلام والعلمانية.. الاختلاف والائتلاف (١)




الإسلام والعلمانية.. الاختلاف والائتلاف (١)

بقلم د. عمار على حسن ٢١/ ٦/ ٢٠١١
كان يجب ألا نضع دينا عظيما عميقا شاملا راسخا رائقا رائعا مثل «الإسلام» على الإطلاق فى مقارنة مع فلسفة واتجاه إنسانى مثل «العلمانية» أيا كانت حدودها وروافدها، وكان يجب ألا نظهر الأمر وكأنه صراع بين ندين، وما هما كذلك. ولو أن من يزعمون انتصارهم للإسلام يعرفون جيدا قيمة هذا الدين وقامته ما وضعوه أبدا فى مواجهة مع مذهب فكرى، لكن الجهل ساد وعم وطم، لأجد نفسى هنا فى هذا المقام مجبرا ومضطرا أن أعامل هؤلاء على قدر نواياهم، التى لا أشك فى إخلاصها، وإن كنت متيقنا من أن الصواب قد جانبهم فى كثير من الأمر، حتى لو كان لا يعلمون.

فى هذه السلسلة من المقالات سأحاول أن أجلى هذا الالتباس على قدر استطاعتى، وأبين فى نهاية المطاف ما ينطوى عليه برنامج حزب «الحرية والعدالة»، الذى خرج من رحم جماعة الإخوان من توجهات يمكن أن نقول عليها «علمانية» حتى لو كان أصحابها لا يدركون هذا.

لقد رأينا كيف وقع انقسام واستقطاب حاد فور انتهاء الموجة الأولى من ثورة ٢٥ يناير، ليس على أساس تضارب المصالح أو التباين فى وسائل صنع السياسة أو حتى أهدافها فى المرحلة المقبلة، إنما يقام الخلاف على أساس فكرى، بين تيارين «تنويرى» و«تراثى» يطلق الثانى على نفسه «دينى»، ويطلق على الأول «مدنى»، محيلاً تلك المدنية بالضرورة إلى «العلمانية» بمفهومها الغربى، فى محاولة واضحة لبناء جدار من الشك والريبة بين أتباع «التيار المدنى» والمحيط الاجتماعى العريض.

وفى كتاب له صدر مؤخراً تحت عنوان «العلمانيون والإسلاميون: محاولة لفض الاشتباك» عبر ياسر أنور عن هذا الجو المشحون بالتربص قائلا: «الخلاف المحتد الآن بين فريقين، أحدهما يزعم علمانية مصر وهى ليست كذلك، والآخر يجزم بإسلاميتها وهو قول عاطفى، فيه صواب وخطأ. كلا الفريقين يعانى من قراءة وجدانية للواقع، وهذا يطرح علامة استفهام على مخزون الوعى السياسى لدى الفريقين، ومدى قدرتهم على استيعاب ملامح وخصائص اللحظة الراهنة».

ويتصور المتعجلون والمغرضون، على حد سواء، أن الفكر الإسلامى والعلمانية طريقان لا يلتقيان أبدا، لا فى الفكر ولا فى الواقع المعيش، ويروجون لمقولات نمطية جامدة عن تبادل الكراهية بين الاثنين، وعن صراع ظاهر وباطن بينهما، يعرضونه فى صيغة «معادلة صفرية»، فإما هذا أو ذاك، ولا جمع أو تقريب يضيق الهوة فى الفكر والممارسة بين ما هو «إسلامى» وما هو «علمانى».

وقد ساهم الكثيرون من مفكرى حركة «لإحياء الإسلامى» أو «الصحوة الإسلامية» الحديثة فى تغذية هذا التصور، فكتبوا المؤلفات والدراسات والمقالات التى تحمّل «العلمانية» مسؤولية الكثير مما يجرى فى بلاد المسلمين من تخلف عن ركب الحضارة الحديثة، والاستلاب حيال الغرب، والتقليل من شأن العطاء الحضارى للعرب والمسلمين فى زمنهم الزاهر والزاخر، ووصل الأمر إلى حد تصوير العلمانية على أنها مؤامرة على الدين، ونعت كل من ينادى بها أو يعتنقها بأنه إما كافراً أو فاسقاً أو عميلاً لأعداء الأمة. والتقط شباب التنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامى هذه الرؤية، ورفعوا شعار «لا شرقية ولا غربية» فى المظاهرات والاحتجاجات، فى وجه الغرب تارة، وضد الأنظمة الحاكمة طورا، وذلك فى ظل تقدير الإسلاميين لهذه الأنظمة ورجالها بأنهم علمانيون.

ومثل هذه التصورات تنطلق من فهم خاطئ لكثير من القيم العامة العميقة، التى ينطوى عليها الإسلام، بقدر ما تنبنى على إدراك مزيف لمعنى العلمانية، يعطيها وزنا أكبر مما هى عليه، ويخلط جزءها بكلها، ويتوهم أنها نظرية متكاملة الأركان، مكتفية بذاتها، قادرة على الصمود والتحدى فى كل وقت وكل مكان. كما أن هذا التصور يجور على الإسلام نفسه، حين يضع الدين السماوى الخاتم، الصالح لكل زمان ومكان، فى مضاهاة أو مقارنة أو حتى مواجهة مع العلمانية، التى هى فى النهاية منتج فكرى أرضى ووضعى، قابل للمراجعة والدحض، وينصرف فى أغلبه إلى العقل ومقتضياته، دون أن يمس شغاف الروح وأغوار النفس ونبض القلب، كما يفعل الدين، فى تجليه وجلاله.

لكن المضاهاة بين الإسلام والعلمانية يمكن أن تجرى فى ساحة ضيقة أو مساحة محددة تتمثل فى الجانب الذى يتماس فيه الإسلام مع الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فعند هذا الحد يقدم الدين نفسه للناس بوصفه إطاراً نظرياً لبعض الممارسات الحياتية، بل يمكن أن يتحول الدين إلى إجراءات واقعية للتعامل مع المشكلات الجارية، وهنا يمكن للعلمانية سواء كانت مصروفة إلى الاشتراكية أم الرأسمالية أن تزاحم الأديان أو تساعدها أو تطرح نفسها بديلاً جزئيا لها، لكنها فى كل الأحوال والظروف لا يمكنها أن تزيحها أو تحل محلها، وليس بوسعها أن تؤدى ما تؤديه الأديان فى الجوانب المرتبطة بالامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى، وليس بمقدور العلمانية أن تطرح إطاراً أكثر تماسكاً وأعمق مما تطرحه الأديان فى النظرة الشاملة إلى الحياة، بكل مسراتها وأوجاعها. لكن ما حدود الائتلاف بين «الإسلام» و«العلمانية»؟! هذا ما سنجيب عنه فى المقال المقبل بإذن الله تعالى ومشيئته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق